كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكذلك حصول مثال مطابق لحقيقة المعلوم في القلب يسمى علما.
وكما أن المرآة لا تنكشف فيها الصورة لخمسة أمور:
أحدها نقصان صورتها كجوهر الحديد قبل أن يدور ويشكل ويصقل.
والثاني لخنثه وصدئه وكدورته وإن كان تام الشكل.
والثالث لكونه معدولا به عن جهة الصورة إلى غيرها كما إذا كانت الصورة وراء المرآة.
والرابع لحجاب مرسل بين المرآة والصورة.
والخامس للجهل بالجهة التي فيها الصورة المطلوبة حتى يتعذر بسببه أن يحاذي بها شطر الصورة وجهتها.
فكذلك القلب مرآة مستعدة لأن ينجلي فيها حقيقة الحق في الأمور كلها وإنما خلت القلوب عن العلوم التي خلت عنها لهذه الأسباب الخمسة:
أولها نقصان في ذاته كقلب الصبي فإنه لا ينجلي له المعلومات لنقصانه.
والثاني لكدورة المعاصي والخبث الذي يتراكم على وجه القلب من كثرة الشهوات فإن ذلك يمنع صفاء القلب وجلاءه فيمتنع ظهور الحق فيه لظلمته وتراكمه.
وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم من قارف ذنبا فارقه عقل لا يعود إليه أبدا حديث من قارف ذنبا فراقه عقل لا يعود إليه أبدا لم أر له أصلا.
أي حصل في قلبه كدورة لا يزول أثرها إذ غايته أن يتبعه بحسنة يمحوه بها فلو جاء بالحسنة ولم تتقدم السيئة لازداد لا محالة إشراق القلب فلما تقدمت السيئة سقطت فائدة الحسنة لكن عاد القلب بها إلى ما كان قبل السيئة ولم يزدد بها نورا.
فهذا خسران مبين ونقصان لا حيلة له فليست المرآة التي تتدنس ثم تمسح بالمصقلة كالتي تمسح بالمصقلة لزيادة جلائها من غير دنس سابق فالإقبال على طاعة الله والإعراض عن مقتضى الشهوات هو الذي يجلو القلب ويصفيه ولذلك قال الله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وقال صلى الله عليه وسلم: «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم حديث من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم». رواه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس وقد تقدم في العلم.
الثالث أن يكون معدولا به عن جهة الحقيقة المطلوبة فإن قلب المطيع الصالح وإن كان صافيا فإنه ليس يتضح فيه جلية الحق لأنه ليس يطلب الحق وليس محاذيا بمرآته شطر المطلوب.
بل ربما يكون متسوعب الهم بتفصيل الطاعات البدنية أو بتهيئة أسباب المعيشة ولا يصرف فكره إلى التأمل في حضرة الربوبية والحقائق الخفية الإلهية فلا ينكشف له إلا ما هو متفكر فيه من دقائق آفات الأعمال وخفايا عيوب النفس إن كان متفكرا فيها أو مصالح المعيشة إن كان متفكرا فيها.
وإذا كان تقييد الهم بالأعمال وتفصيل الطاعات مانعا عن انكشاف جلية الحق فما ظنك فيمن صرف الهم إلى الشهوات الدنيوية ولذاتها وعلائقها فكيف لا يمنع عن الكشف الحقيقي.
الرابع الحجاب فإن المطيع القاهر لشهواته المتجرد الفكر في حقيقة من الحقائق قد لا ينكشف له ذلك لكونه محجوبا عنه باعتقاد سبق إليه منذ الصبا على سبيل التقليد والقبول بحسن الظن فإن ذلك يحول بينه وبين حقيقة الحق ويمنع من أن ينكشف في قلبه خلاف ما تلقفه من ظاهر التقليد وهذا أيضا حجاب عظيم به حجب أكثر المتكلمين والمتعصبين للمذاهب بل أكثر الصالحين المتفكرين في ملكوت السموات والأرض لأنهم محجوبون باعتقادات تقليدية جمدت في نفوسهم ورسخت في قلوبهم وصارت حجابا بينهم وبين درك الحقائق.
الخامس الجهل بالجهة التي يقع منها العثور على المطلوب فإن طالب العلم ليس يمكنه أن يحصل العلم بالمجهول إلا بالتذكر للعلوم التي تناسب مطلوبه حتى إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيبا مخصوصا يعرفه العلماء بطرق الاعتبار فعند ذلك يكون قد عثر على جهة المطلوب فتنجلي حقيقة المطلوب لقلبه فإن العلوم المطلوبة التي ليست فطرية لا تقتنص إلا بشبكة العلوم الحاصلة بل كل علم لا يحصل إلا عن علمين سابقين يأتلفا ويزدوجان على وجه مخصوص فيحصل من ازدواجهما علم ثالث على مثال ما يحصل النتاج من ازدواج الفحل والأنثى.
ثم كما أن من أراد أن يستنتج رمكة لم يمكنه ذلك من حمار وبعير وإنسان بل من أصل مخصوص من الخيل الذكر والأنثى وذلك إذا وقع بينهما ازدواج مخصوص.
فكذلك كل علم فله أصلان مخصوصان وبينهما طريق في الازدواج يحصل من ازدواجهما العلم المستفاد المطلوب فالجهل بتلك الأصول وبكيفية الازدواج هو المانع من العلم.
ومثاله ما ذكرناه من الجهل بالجهة التي الصورة فيها بل مثاله أن يريد الإنسان أن يرى قفاه مثلا بالمرآة فإنه إذا رفع المرآة بإزاء وجهه لم يكن قد حاذى بها شطر القفا فلا يظهر فيها القفا وإن رفعها وراء القفا وحاذاه كان قد عدل بالمرآة عن عينه فلا يرى المرآة ولا صورة القفا فيها فيحتاج إلى مرآة أخرى ينصبها وراء القفا وهذه في مقابلتها بحيث يبصرها ويراعي مناسبة بين وضع المرآتين حتى تنطبع صورة القفا في المرآة المحاذية للقفا ثم تنطبع صورة هذه المرآة في المرآة الأخرى التي في مقابلة العين ثم تدرك العين صورة القفا فكذلك في اقتناص العلوم طرق عجيبة فيها ازورارات وتحريفات أعجب ما ذكرناه في المرآة يعز على بسيط الأرض من يهتدي إلى كيفية الحيلة في تلك الأزورارات.
فهذه هي الأسباب المانعة للقلوب من معرفة حقائق الأمور.
وإلا فكل قلب فهو بالفطرة صالح لمعرفة الحقائق لأنه أمر رباني شريف فارق سائر جواهر العالم بهذه الخاصية والشرف.
وإليه الإشارة بقوله عز وجل: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان} إشارة إلى أن له خاصية تميز بها عن السموات والأرض والجبال بها صار مطيقا لحمل أمانة الله تعالى.
وتلك الأمانة هي المعرفة والتوحيد وقلب كل آدمي مستعد لحمل الأمانة ومطيق لها في الأصل ولكن يثبطه عن النهوض بأعبائها والوصول إلى تحقيقها الأسباب التي ذكرناها.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه حديث كل مولود يولد على الفطرة الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم الحديث تقدم.
إشارة إلى بعض هذه الأسباب التي هي الحجاب بين القلوب وبين الملكوك.
وإليه الإشارة بما روى عن ابن عمر رضى الله عنهما قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أين الله في الأرض أو في السماء قال في قلوب عباده المؤمنين حديث ابن عمر أين الله قال في قلوب عباده المؤمنين لم أجده بهذا اللفظ وللطبراني من حديث أبي عتبة الخولاني يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال إن لله آنية من أهل الأرض وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين الحديث فيه بقية بن الوليد وهو مدلس لكنه صرح فيه بالتحديث.
وفي الخبر قال الله تعالى: «لم يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوادع حديث قال الله ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوادع». لم أر له أصلا وفي حديث أبي عتبة قبله عند الطبراني بعد قوله وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين وأحبها إليه ألينها وأرقها.
وفي الخبر أنه قيل يا رسول الله من خير الناس فقال كل مؤمن مخموم القلب فقيل وما مخموم القلب فقال هو التقي النقي الذي لا غش فيه ولا بغي ولا غدر ولا غل ولا حسد حديث قيل من خير الناس قال كل مؤمن مخموم القلب الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر بإسناد صحيح.
ولذلك قال عمر رضي الله عنه رأى قلبي ربي.
إذ كان قد رفع الحجاب بالتقوى ومن ارتفع الحجاب بينه وبين الله تجلى صورة الملك والملكوت في قلبه فيرى جنة عرض بعضها السموات والأرض أما جملتها فأكثر سعة من السموات والأرض لأن السموات والأرض عبارة عن عالم الملك والشهادة وهو وإن كان واسع الأطراف متباعد الأكناف فهو متناه على الجملة وأما عالم الملكوت وهي الأسرار الغائبة عن مشاهدة الأبصار المخصوصة بإدراك البصائر فلا نهاية له نعم الذي يلوح للقلب منه مقدار متناه ولكنه في نفسه وبالإضافة إلى علم الله لا نهاية له.
وجملة عالم الملك والملكوت إذا أخذت دفعة واحدة تسمى الحضرة الربوبية لأن الحضرة الربوبية محيطة بكل الموجودات إذ ليس في الوجود شيء سوى الله تعالى وأفعاله ومملكته وعبيده من أفعاله فما يتجلى من ذلك للقلب هي الجنة بعينها عند قوم وهو سبب استحقاق الجنة عند أهل الحق ويكون سعة ملكه في الجنة بحسب سعة معرفته وبمقدار ما تجلى له من الله وصفاته وأفعاله.
وإنما مراد الطاعات وأعمال الجوارح كلها تصفية القلب وتزكيته وجلاؤه قد أفلح من زكاها ومراد تزكيته حصول أنوار الإيمان فيه أعني إشراق نور المعرفة وهو المراد بقوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه}
نعم هذا التجلي وهذا الإيمان له ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى إيمان العوام وهو إيمان التقليد المحض.
والثانية إيمان المتكلمين وهو ممزوج بنوع استدلال ودرجته قريبة من درجة إيمان العوام.
والثالثة إيمان العارفين وهو المشاهد بنور اليقين.
ونبين لك هذه المراتب بمثال وهو أن تصديقك بكون زيد مثلا في الدار له ثلاث درجات.
الأولى أن يخبرك من جربته بالصدق ولم تعرفه بالكذب ولا اتهمته في القول فإن قلبك يسكن إليه ويطمئن بخبره بمجرد السماع وهذا الإيمان بمجرد التقليد وهو مثل إيمان العوام فإنهم لما بلغوا سن التمييز سمعوا من آبائهم وأمهاتهم وجود الله تعالى وعلمه وإرادته وقدرته وسائر صفاته وبعثة الرسل وصدقهم وما جاءوا به وكما سمعوا به قبلوه وثبتوا عليه واطمأنوا إليه ولم يخطر ببالهم خلاف ما قالوه لهم لحسن ظنهم بآبائهم وأمهاتهم ومعلميهم وهذا الإيمان سبب النجاة في الآخرة وأهله من أوائل رتب أصحاب اليمين وليسوا من المقربين لأنه ليس فيه كشف وبصيرة وانشراح صدر بنور اليقين إذ الخطأ ممكن فيما سمع من الآحاد بل من الأعداد فيما يتعلق.
بالاعتقادات فقلوب اليهود والنصارى أيضا مطمئنة بما يسمعونه من آبائهم وأمهاتهم إلا أنهم اعتقدوا ما اعتقدوا خطأ لأنهم ألقى إليهم الخطأ والمسلمون اعتقدوا الحق لا لإطلاعهم عليه ولكن ألقى إليهم كلمة الحق.
الرتبة الثانية أن تسمع كلام زيد وصوته من داخل الدار ولكن من وراء جدار فتستدل به على كونه في الدار فيكون إيمانك وتصديقك ويقينك بكونه في الدار أقوى من تصديقك بمجرد السماع فإنك إذا قيل لك إنه في الدار ثم سمعت صوته ازددت به يقينا لأن الأصوات تدل على الشكل والصورة عند من يسمع الصوت في حال مشاهدة الصورة فيحكم قلبه بأن هذا صوت ذلك الشخص وهذا إيمان ممزوج بدليل والخطأ أيضا ممكن أن يتطرق إليه إذ الصوت قد يشبه الصوت وقد يمكن التكلف بطريق المحاكاة إلا أن ذلك قد لا يخطر ببال السامع لأنه ليس يجعل للتهمة موضعا ولا يقدر في هذا التلبيس والمحاكاة غرضا.
الرتبة الثالثة أن تدخل الدار فتنظر إليه بعينك وتشاهده وهذه هي المعرفة الحقيقية والمشاهدة اليقينية وهي تشبه معرفة المقربين والصديقين لأنهم يؤمنون عن مشاهدة فينطوي في إيمانهم إيمان العوام والمتكلمين ويتميزون بمزية بينة يستحيل معها إمكان الخطأ.
نعم وهم أيضا يتفاوتون بمقادير العلوم وبدرجات الكشف.
أما درجات الكشف فمثاله أن يبصر زيدا في الدار عن قرب وفي صحن الدار في وقت إشراق الشمس فيكمل له إدراكه والآخر يدركه في بيت أو من بعد أو في وقت عشية فيتمثل له في صورته ما يستيقن معه أنه هو ولكن لا يتمثل في نفسه الدقائق والخفايا من صورته.
ومثل هذا متصور في تفاوت المشاهدة للأمور الإلهية.
وأما مقادير العلوم فهو بأن يرى في الدار زيدا وعمرا وبكرا غير ذلك وآخر لا يرى إلا زيدا فمعرفة ذلك تزيد بكثرة المعلومات لا محالة.
فهذا حال القلب بالإضافة إلى العلوم والله تعالى أعلم بالصواب.
بيان حال القلب بالإضافة إلى أقسام العلوم العقلية والدينية والدنيوية والأخروية.
اعلم أن القلب بغريزته مستعد لقبول حقائق المعلومات كما سبق ولكن العلوم التي تحل فيه تنقسم إلى عقلية وإلى شرعية والعقلية تنقسم إلى ضرورية ومكتسبة والمكتسبة إلى دنيوية وأخروية أما العقلية فنعني بها ما تقضي بها غريزة العقل ولا توجد بالتقليد والسماع وهي تنقسم إلى ضرورية لا يدري من أين حصلت وكيف حصلت كعلم الإنسان بأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين والشيء الواحد لا يكون حادثا قديما موجودا معدوما معا فإن هذه علوم يجد الإنسان نفسه منذ الصبا مفطورا عليها ولا يدري متى حصل له هذا العلم ولا من أين حصل له أعني أنه لا يدري له سببا قريبا وإلا فليس يخفى عليه أن الله هو الذي خلقه وهداه، وإلى علوم مكتسبة وهي المستفادة بالتعلم والاستدلال وكلا القسمين قد يسمى عقلا.